عن صمت مرير اضطررنا إليه

رنيم العفيفي

تدوينة

25 نوفمبر 2018

خلال سنوات النصف الثاني من العقد الأول في الألفية الجديدة وهي الفترة التي تزامنت معها دراستي للإعلام، كانت الأزمة الكبرى التي تظن كثيرات حولي أنهن سيصطدمن بها بعد التخرج هي "الوساطة" في ظل عدد محدود من القنوات الفضائية والجرائد الخاصة حينذاك، إلى جانب تخوّف من الصورة النمطية المترسخة لدى كثير من المصريين عن الوسط الإعلامي حيث الانحلال والتنازلات المستمرة التي تقدمها النساء ليكن جزءًا من هذه المنظومة وينجحن بمقاييسها ومعاييرها، بينما تتخوّف المحجبات اللاتي يطمحن إلى العمل في مجال الإعلام المرئي وتحديدًا أمام الشاشة من أن يمثل غطاء الرأس عائقًا ويحرمهن من عشرات الفرص، خاصة أن ما ترسخ لدى قطاع واسع هو أن الحجاب يحجِّم ويُقصِر فرصك في "التلفزيون" على أدوار محددة.

بدرجة أقل كان التحرش الجنسي أحد التخوفات التي تتخلل الحديث عن ما قد تواجهه الفتاة إن عملت بالمجال الإعلامي، وكان من النادر أن يوصف الفعل بـــ"التحرش"، واعتقد أنني لم أسمع هذا اللفظ إلا بعد حوادث التحرش الجنسي الجماعي التي وقعت خلال عُطلة عيد الفطر في أكتوبر من العام 2006 أمام سينما مترو بمنطقة وسط البلد، وبالإضافة إلى ما طالعته في الصحف والبرامج الحوارية، طُرِح الأمر للنقاش في إحدى المحاضرات وعلى الرغم من أن الحدث يعتبره بعض المعنيين بالشأن الحقوقي والنسوي نقطةً فاصلة في التعامل مع الظاهرة على مستويات عديدة إلا أن النقاش كان مُحبِطًا للغاية وأظنه كان مماثلًا للنقاشات الفعلية التي دارت بين عموم الناس بعيدًا عن المحطات الإعلامية.

هيمنت على النقاش التصورات الطبقية، إذ رجحت أغلب الاَراء أن المتحرشين في هذه الواقعة من أبناء الطبقات الدنيا المكبوتين، أما تعامل الإعلام مع الحدث فلم تكن المحاضِرة نفسها معجبة به معتبرة أن المغالاة في تغطية الحدث تصب في صالح تشويه سمعة مصر، ووصف بعض الطلاب الأمر بالصدمة كما لو كان المجتمع لم يعرف التحرش من قبل، فضلًا عن شبه إجماع على مسؤولية الفنانة التي ارتبط اسمها بالواقعة، نتيجة تواجدها أمام دار العرض واحتفالها بفيلمها المعروض، وهي ترتدي ملابس "غير لائقة" وترقص "بشكل مثير" على حد وصف الغالبية.

كان المحير بالنسبة لي هو حالة الإنكار التي نغرق فيها؛ كل المتحدثات من الفتيات والمحاضرة بالتأكيد يتعرضن للتحرش بصفة يومية والذكور يعلمون بوقوعه إن لم يكونوا يمارسونه، وقبل شهور سمعنا عن وقائع شبيهة خلال الاحتفالات التي تلت فوز مصر بالمباراة النهائية في بطولة الأمم الأفريقية، ومع ذلك يصّر الجميع على أن ما حدث "استثنائي" وأن المتحرشين ليسوا "أولاد ناس" وأن الإعلام أعطى الحدث أكبر من حجمه.

كانت الفتيات يروين قصصهن مع التحرش الجنسي في الشوارع والمواصلات العامة وفي التدريب أو في العمل - لمن تحصلن على وظائف أثناء الدراسة - ولكن بوصفه "معاكسة"، وكان الأسهل هو الحديث عن التحرش اللفظي من قبل أشخاص غير معلومين، لكن من الصعب الحكي عن تجارب التحرش الجسدي والأكثر صعوبة تحرش المدير في جهة التدريب أو العمل.

كانت تشاركني واحدة من الصديقات اللاتي بدأن حياتهن المهنية مبكرًا بعض التفاصيل، وتحدثت معي بصراحة عن تحرش مديرها المباشر بها جنسيًا واضطرارها إلى الصمت حتى تستمر بالعمل على أمل أن تنضم إلى نقابة الصحافيين وتحصل على الكارنيه الذي يمثل حلمًا كبيرًا لأي عامل أو عاملة بهذا المجال. كانت تهاتفني بين الفينة والأخرى لتبكي، فقط لتبكي مما هي مضطرة إليه، تلعن الخوف الذي يسيطر عليها، وتتخيل لو تحدثت كيف سترجمها ألسنة من حولها سواء كانوا ذكورًا أم إناثًا.

وقتها لم أكن مقتنعة بمنطقية هذا الذعر ولم أكن مؤيدة لأي من المبررات التي تسوغ بها صمتها، حتى وقعت صديقة أخرى في المأزق نفسه، لكنها كانت أكثر جرأة من الأولى وقررت شكاية رئيسها المباشر إلى من يرأسها، فما وجدت سوى التشكيك في روايتها واتهامها بأنها قادمة من بيئة محافظة "زيادة عن اللزوم" وإدعاء أن الطريقة المعتادة للمزاح يمكن أن تشتمل ألفاظًا كالتي أزعجتها ولمسات كالتي أرقتها، ونصحها بأن تكون أكثر تحررًا وإلا ستواجه مشكلة فيما بعد ستعطلها عن العمل في المجال برمته، وبعد أيام بدأ التضييق عليها كما لو كان اتفاقًا تم إبرامه لدفعها إلى ترك المكان من تلقاء نفسها.

ظلت بطلات الحكايات أخريات حتى أصبحت بطلة لقصص شبيهة، وكان رد فعلي الدائم والمستمر هو لملمة أشيائي والرحيل، إلا أنني لم أستطع في أي مرة الإفصاح عن سبب رحيلي، كان الخوف من اتهامي باختلاق الأكاذيب حاضرًا، وفي بعض الأحيان كانت سلطة وشهرة بعض المتحرشين مصدر قلق ودافعًا للتراجع عن خوض غمار معارك كنت اعتقد أنها ستنتهي حتمًا لصالح الطرف الاَخر.

"إنت تقدري تمشي أنا ما أقدرش"، كانت هذه العبارة التي قالتها لي إحدى زميلاتي بصوت متهدج بعد أن تحرش بها نفس الرجل الذي تحرش بي في إحدى المؤسسات. حكت لي التفاصيل ذاتها، وعبّرت عن نفس الاَلم الذي اختبرته إلا أنها رغم كل ذلك ما زالت مصرة على البقاء في المكان والعمل تحت إدارته. عندها استنكرت بعنف رد فعلها فردت بهذه الكلمات لتذكرني بأنها جاءت من محافظة في أقصى الصعيد، لتدرس وتعمل بالصحافة وليس لديها رفاهية ترك العمل، لأنها لن تجد مالًا يكفي لتدفع إيجار المنزل الذي تسكنه بالشراكة مع أخريات ولن تجد ثمن أبسط احتياجاتها.

بمشاركة التجارب وتبادل الدعم ولو بشكل غير معلن، زاد وعيي بأن ثمة ظروف تُرغِمُ كثيرات منا على التغاضي عما يحدث قهرًا، كالاستقلال عن الأهل ماديًا ونفسيًا، أو الخوف من أسرة شديدة التطرف في أفكارها قد يأتي رد فعلها ضد الفتاة نفسها، أو الانفصال عن زوج بينما تتحمل المرأة مسؤولية طفل أو أكثر، وبمرور الوقت تنامى يقيني بأن ردود أفعالنا تحددها لا إراديًا ظروفنا النفسية والاجتماعية.

تنظر إلي صديقة فتقول يا ليتني أملك قدرتك على الرحيل، وأنا أغبط أخرى لأنها استطاعت أن تفضح المتحرش رغم سلطته ومكانته، وتخبرني الأخيرة أنها تتمنى لو كانت تملك نفس الفرص التي توفرت للصحافيات العاملات في شبكتي فوكس نيوز ودويتشه فيله، بما مكنهن من استعادة حقهن بفضل مؤسسات تؤمن بحق النساء في بيئة عمل اَمنة، ونتفق ثلاثتنا في أن بيئة عمل خالية من العنف الجنسي في الوقت الحالي وفي هذه البقعة، أشبه بحلم وردي في ليلة ربيعية بينما ينام صاحبه بين الركام.

#بدون_وجه_حق

رابط دائمhttp://www.nazra.org/node/624