لقد أصبح هذا السؤال من الأسئلة المطروحة على المجموعات المعنية بالعمل على مكافحة العنف ضد النساء، وخاصة النسوية منها، حيث يتردد هذا الأمر كمحاولة لإيجاد حلول مبتكرة ومختلفة يمكن العمل من خلالها على القضاء على العنف ضد النساء. كما يُطرح موضوع العمل مع مرتكبي الجرائم الجنسية والعنيفة ضد النساء في إطار العمل بصورة تكاملية على هذه القضية الشائكة التي لا تنتهي ولن تُحلّ، كما يبدو جليًّا، في المستقبل القريب.
ويأتي طرح العمل مع مرتكبي هذه الجرائم وإعادة تأهيلهم كحل للقصور في المنظومة التشريعية الحاكمة للعنف ضد النساء، فقد حدثت تطورات تشريعية عديدة بدءاً من النص الدستوري في المادة " 11" الذي يجرّم العنف ضد النساء ويلزم الدولة بمكافحته، مروراً بتعديل قانون العقوبات ليجرّم التحرّش الجنسي في نص المادة (306) مكرر ب التي تنص على: يعد تحرشا جنسيا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها في المادة 306 مكرر (أ) من هذا القانون بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، ويعاقب الجاني بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، وهو التعديل الذي أقره الرئيس السابق عدلي منصور عندما تولى رئاسة مصر في الفترة الانتقالية التي تلت أحداث 30 يونيو 2013. وبالرغم من هذه التطورات التي تظل إنجازًا هامًا في تعامل الدولة مع هذه القضية، إلا أنه لازال يشوب هذه النصوص القصور في تعريف أشكال العنف الممارس ضد النساء في مصر، فلم تتطرق هذه النصوص إلى أشكال الاغتصاب التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة وصارت وباءً اجتماعيًا يصيب ناجيات كثيرات قد نجون من الموت في هذه التجارب المرعبة والأليمة، دون أن ينجين من التداعيات التي تؤثر على حياتهن اليومية وعلى قدراتهن في التعايش مع هذه الخبرات القاسية لسائر حيواتهن.
علاوة على ذلك، لازال هناك قصور في المنظومة الطبية التي تتعامل مع الناجيات من العنف بكافة أشكاله، نتيجة لافتقار العاملين والعاملات بمجال الرعاية الصحية للمعرفة المطلوبة للتعامل مع الناجيات في مختلف المراحل العلاجية وأيضاً في حالة ما إذا أردن اللجوء إلى إبلاغ الشرطة بالوقائع التي جرت لهن واللجوء للتقاضي بعد ذلك.
وفي كل هذه الأوجه السابق ذكرها، نركز نحن كنسويات على ما ينقص الناجيات، بينما يركز البعض الآخر على ما يدفع المجرمين إلى ارتكاب هذه الجرائم، دون أن يكلف البعض نفسه عناء النظر فيما إذا كان المجتمع بمؤسساته يتعامل مع قضية العنف ضد النساء كجريمة من الأساس، ومن ثم يلجأ البعض للتأكيد على ضرورة النظر في الدوافع التي تدفع الرجال إلى ارتكاب هذا النوع من الجرائم. فعلى سبيل المثال، منذ بداية طرح قضية التحرش الجنسي في مصر، بدأ النقاش حول دور الفوارق الطبقية الضخمة في دفع بعض الرجال من المهمشين والفقراء للتحرش بالنساء والاعتداء عليهن كنوع من ممارسة القهر على طرف أضعف في النظام الاجتماعي، وبعد مرور عدة سنوات على هذا الطرح الذي يحمّل قضية العنف ضد النساء عبء الصراع الطبقي، لازال البعض يتساءل إذا كان على النساء ممن يتعرضن للتحرش الجنسي أن يبلغن عن هذه الجرائم للشرطة، علماً بأن المتحرشين قد يتعرضوا للتعذيب، وهي محاولة أخرى للجوء إلى الابتزاز بما يبدو كقضايا أخلاقية كبرى يجب على النساء الانتباه لها، وعودة إلى تحميل قضايا النساء فوق ما تحتمل، حيث أن سؤال تشوه وانحدار المؤسسات العقابية في مصر لا يقع على كاهل النساء حلّه، بل على الدولة أن تعمل على إصلاح المؤسسات العقابية في مصر حتى تصير مؤسسات تعمل على إعادة تأهيل المجرمين بصورة جادة تجعل من هؤلاء مواطنين يمكنهم التعايش مع مجتمعاتهم بعدما يخرجون إليها بعد انقضاء المدة التي يقضونها داخل هذه المؤسسات.
وقد أصبحت مسألة العمل مع المتحرشين في أولويات الكثير من المؤسسات المانحة التي تعمل في هذا المجال، وهو ما يطرح سؤال حول الموارد التي تستهلك في هذه البرامج، أليس من الأجدر أن تسخّر مثل هذه الموارد من أجل العمل مع الناجيات لتوفير ما يحتجن إليه من دعم نفسي وطبي وتأهيلي؟
ومع صعود موجة اليمين المحافظ التي نواجهها الآن بصعود دونالد ترامب وأمثاله في أوربا وأمريكا وشتى أنحاء العالم، لابد لنا من إدراك أن المسألة الآن لم تعد خياراً، فمسألة العنف ضد النساء صارت محاطة بالخطابات المحافظة محلياً وعالمياً، ولابد ألا ننسى دورنا نحن كنسويات في الحفاظ على الناجيات من العنف ضمن أولوياتنا وألا تغيب أعيننا عن هذا الأمر، لنظل نعمل سوياً من أجل إيجاد حلول للتعامل مع وضعهن، لا القيام بدور مؤسسات الدولة في إعادة تأهيل مرتكبي جرائم العنف الجنسي ضد النساء، فالحركة النسوية هي جزء من الحركة الديمقراطية التي تضع على أجندتها الضغط على مؤسسات الدولة لإصلاح منظومة إنفاذ القانون في مصر والمتمثلة في المنظومة الشرطية وكذلك المنظومة التشريعية الحاكمة لها، دون أن تقلل من أهمية قضية العنف ضد النساء على حد سواء، ودون تحميل هذه الأخيرة فوق ما تحتمل بدعوى أن على النساء أن يتحملن ويتنازلن بعض الشيء عن المطالب "النخبوية" المتمثلة في معاقبة المتحرشين على الجرائم التي يرتكبونها، حتى ينصلح حال المؤسسة العقابية في مصر!!